الخميس، 28 أبريل 2011

شهادة للتاريخ


سألني شاب صغير لم يتجاوز عمره السادسة عشر ونحن نتحلق حول الكاتب الصحفي إبراهيم عيسى: من هذا؟ فأجبته: إبراهيم عيسى فعاد يسألني: من إبراهيم عيسى؟!..فتعجبت..هذا الفتى لم يقرأ بالتأكيد جرائد سيارة طوال عمره كله, ومع ذلك خرج في مظاهرة لإسقاط النظام وهو لا يدري أو ربما يدري أن زبانية النظام من الممكن أن يبطشوا به ويقتلونه شر قتلة. كان هذا أحد أهم مشاهد يوم الخامس والعشرين من يناير عام 2011 التي مررت بها في ميدان التحرير,وأنا أقف وسط ما يزيد على خمسين ألفا من المصريين الذين خرجوا يطالبون بحريتهم وكرامتهم التي انتهكها حسني مبارك ونظامه على مدى ثلاثين عاما.

كانت البداية أنني استجبت لدعوة من دعوات التظاهر في عيد الشرطة والتي انتشرت على مواقع الشبكات الاجتماعية,كنت يومها اظن –وبعض الظن إثم- أنني سأذهب إلى ميدان التحرير لأقف مع مائتي فرد على الأكثر في الميدان نهتف بسقوط النظام, ونحن نظن أن هذا مجرد تفريغ لشحنة من الكبت والقهر. وكنت أظن –وهنا معظم الظن إثم- أنني سأقف لمدة ساعتين أو أكثر قليلا ثم أعود إلى بيتي بعدها وقد أفرغت مشاعر الغضب داخلي. لكن المفاجأة كانت تعقد اللسان..آلاف من البشر يقفون في الميدان يطلقون صيحاتهم وعندما ترد قوات الأمن بالقنابل المسيلة للدموع نتراجع قليلا إلى أن ينقشع الدخان فنعود من جديد إلى المواجهة. طالت الساعات وأقبل الليل,وإذا بدعوات تنتشر بين الجموع أننا سنبيت ليلتنا في الميدان. وما هي إلا لحظات حتى افترش الناس خياما لا أعلم من اين جاءت,وفتح البعض دورات مياه أسفل محطة مترو الأنفاق, وجاء آخرين بسندوتشات للموجودين في الميدان ولم يخرجوا, ثم ميكروفون يهتف منه بعض المشاهير والمتحمسين ليزيدوا من لهيب الهتافات. امتد الوقت إلى ما بعد منتصف الليل..سألت أحد أصدقائي الواقفين معي في الميدان: هل تظن انهم سيتركوننا نبيت في الميدان؟ فأجابني باستغراب: وهل من الممكن أن يتعاملوا بعنف مع هذه الأعداد الغفيرة؟ ولم يطل سؤالي واستغرابه طويلا, إذ أن الساعة لم تكد تشير إلى الثانية عشرة والنصف وخمس دقائق حتى بدأت جحافل الأمن المركزي في عملية إخلاء الميدان بالمدرعات والعصي والقنابل المسيلة للدموع. ونجح الامن في تفريقنا رغم بسالة العديد من الشباب الذي دافع عن أرض الميدان بشجاعة نادرة.

عدت إلى بيتي قرب الفجر سعيدا مستبشرا..رغم أننا لم نستطع أن نبيت ليلتنا الاولى في الميدان, إلا أن استبشاري بالأعداد الهائلة من المتظاهرين وبسالة الشباب الذي أدرك أنها معركته الكبرى لتحرير وطنه من الأوضاع المهينة , التي حولت وطنه إلى بلد يتسول دوره ولقمته من الآخرين.
اضطرتني الظروف للسفر إلى بورسعيد في اليوم التالي للعمل, ومر علي يومي السادس والعشرين والسابع والعشرين وأنا أتابع بقلق عن طريق التلفاز ما عجزت عن متابعته عن طريق التليفون والإنترنت, ذلك أن الدولة البوليسية أرادت أن تحكم قبضتها الكاملة على الموقف فقطعتهما, وهي تتصور أنها ستسحق المظاهرات لا محالة. حتى جاء يوم الثامن والعشرين وأنا اعلم أنها جمعة الغضب التي تخرج فيها مصر عن بكرة أبيها لانتزاع كرامتها وحريتها السليبة.

خرجت مع زملائي بعد صلاة الجمعة في بورسعيد للتظاهر وكانت أعدادنا تتجاوز العشرة آلاف شخص, إلا أن المفاجاة أن التواجد الأمني كان ضعيفا لأبعد مدى, ذلك أن قوات الامن قد حشدت ما استطاعت من الأعداد والإمدادات في مدينة السويس القريبة من بورسعيد, حيث كانت السويس خارج سيطرة الأمن منذ الخامس والعشرين من يناير.
أدركت جيدا بعد انتهاء اليوم أن المعركة الحقيقية لي في القاهرة, فعدت في اليوم التالي إلى ميدان التحرير, وهناك سمعت قصص البطولات الخارقة من أصدقائي عن جمعة الغضب في القاهرة , وانتويت أن أكمل اعتصامي مع أصدقائي في الميدان حتى رحيل النظام بعد أن فقدنا الكثير من أزهار الجنان على أيدي مجرمي النظام وقناصته.

هنا بدأت ملحمة من أروع الملاحم التي سيذكرها تاريخ مصر دوما بالفخر. نوع غريب من التعاون والتآلف بين الجميع..مسلمون ومسيحيون..كبار وصغار..رجال ونساء. نبيت جميعا في العراء لمدة ثلاثة أيام قبل أن ننجح في نصب الخيام. نصلي كمسلمين فيحرسنا إخواننا المسيحيون, ويقيمون هم قداسهم فنقف نحن بخشوع نشاركهم. يقتسم كل منا لقمته وأخيه, حتى ولو كانت تمرة. إذا أراد شخص أن يرمي ورقة على الأرض تجد من يلومه ويقول له لا تفعل, نحن في الميدان. سادت حالة عجيبة أسميناها (أخلاق الميدان)..تسامح وتعاطف وتآخي, فالكل يعمل في الحراسة والكل يقوم بالتنظيف وجمع القمامة, والكل يساعد في تضميد جروح المصابين أو يتبرع بالبطاطين والأدوية للمستشفى الميداني, الذي لم يكن سوى زاوية صغيرة للصلاة تحولت إلى خلية نحل لإسعاف الحالات وتضميد الجرحى ومكان لتجميع جثث الشهداء.

كان يوم الاربعاء 2 فبراير هو أصعب الأيام على الإطلاق, فبعد خطاب الرئيس المخلوع حسني مبارك في يوم الثلاثاء 1 فبراير, بتنا ليلتنا ونحن خائفون مما سيحدث في الصباح. وبالفعل ما إن انتصف اليوم وتقريبا في الثانية ظهرا حتى وجدنا أعدادا غفيرة من المتظاهرين الذين يحملون لافتات التأييد لمبارك يأتون من ناحية ميدان الشهيد عبدالمنعم رياض. وقفنا جميعا وشبكنا أيدينا لنمنعهم من دخول الميدان, ونجحنا في صد الموجة الأولى منهم فقابلونا بالحجارة, ثم جاءت الموجة الثانية من راكبي الإبل والخيول تحمل الكرابيج, وفي تلك اللحظة فقدت أنا وعيي واستفقت لأجد نفسي في الحديقة التي تتوسط الميدان وأجد الخيول والبغال وقد صارت في أيدينا نحن فسلمها الشباب للجيش.هنا كان يجب أن نطور دفاعنا عن الميدان, فبدأنا في تكوين مجموعات وعمل متاريس لحماية الميدان. البعض كان يقوم بتكسير أرضيات الميدان من البلاط والطوب لعمل حجارة قابلة لصد الهجوم, والبعض كان ينقل تلك الحجارة للصفوف الأمامية, أما الشباب في الأمام فكان يقذف الحجارة. كانت الفتيات أيضا لهن دور فقد وقفن خلف الصفوف لتحميسنا على الصمود, وكان الشيوخ يتلون القرآن ويستحثون الجميع على الصبر مرددين قول الرسول صلى الله عليه وسلم (إنما النصر صبر ساعة). كنا نقسم أنفسنا لموجات, من تكل يداه يعود للخلف للإستراحة وشرب القليل من الماء الذي كان يحضره البعض كنوع من المشاركة في المعركة. وكانت الإذاعة الداخلية للميدان تقوم بدور التوجيه للشباب,سواء لصد الهجوم من ناحية عبدالمنعم رياض أو من ناحية قصر النيل أو من ناحية طلعت حرب. ظلت معركة الصمود هذه حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي, فقدنا فيها أكثر من ستة شباب أصيبوا أصابات مباشرة في الرأس والصدر برصاص قناصة اعتلوا فندق هيلتون رمسيس, إلى جانب العشرات من الجرحى في رؤوسهم ووجوههم وأقدامهم.

 أما عن كاتب هذه السطور فهو لا يدعي بطولة, لكنه يفخر أنه شارك في الثورة من اليوم الأول وحتى لحظة التنحي مرورا بما بات يعرف إعلاميا بموقعة الجمل.
فلقد مررت بالكثير من اللحظات الصعبة, ليس آخرها أنني لم أشف إلى الآن من حساسية الصدر التي تلازمني من النوم على ارضية الميدان ملتحفا السماء ومستدفئا بصحبتي وما أحلاها من صحبة وخائفا إلى درجة التفكير فى الفرار  لولا أن ثبت الله خطى ما كانت لتدرك  قيمة الشجاعة إلا بعد لحظات الصمود. ولكم بكينا حينما اشتدت وطأة المحرضين والمنافقين إلى جانب ضغط الرفقاء الذين فتنهم خطاب ما أراد إلا أن يزرع الفتنة ولكن الله يأبى إلا أن يتم نوره. أما عن لحظات الأمل فكانت بعد صلاة الفجر والجري حول الكعكة الحجرية كتمارين صباح لألفي شخص على الأقل مع الهتاف المدوي لهم وهم يملؤهم الأمل أن يكون هذا اليوم هو الأخير للطاغية والأول لمصر الحرة. إنها أيام أفتقدها الآن رغم صعوبتها وهي أوقات أدركت فيها درس الصبر الذي يجلب النصر ودرس العزيمة التي تصنع المستحيل ودرس الاتحاد الذي يمنع الفتنة.

إنها لحظات فارقة في عمرالوطن,  آمنت بعدها أن ثوروا...تصحوا.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اكتب