أخيرا...طاوعتني أناملي وضغطت على زر الاتصال في هاتفي المحمول
قلبي يدق بعنف, مر أكثر من ثلاث سنوات منذ أن التقيتها لآخر مرة..تلك المرة التي كانت عنيفة لأقصى حد.
******************
-أنا لا أحبك..لا أعلم من أين وصلتك هذه الفكرة..لقد كنت واضحة من البداية, ولقد حاولت أن أفكر فيك بغير هذه الطريقة ولكني فشلت(قالت هي).قشعريرة باردة تجتاحني كما لو أنك صببت دلو ماء ممتلىء عن آخره على قفاي, ولكني حاولت أن أتماسك, فتشت في ذاكرتي عما يمكن أن أحتج به على هذا القول, ولكن المواقف تتفلت من عقالها, لا تستطيع ذاكرتي أن تستحضر أي موقف يدل على عكس ما تقوله هي. أه من حواء, فعلا إن كيدهن عظيم, لا يملك الرجل إلا أن يسلم لهن بعجزه. ندخل في جدل بيزنطي حول أخطائي التي ارتكبتها طوال معرفتي بها.
-لقد فعلت كذا وكذا وكذا (تضيف). هي فعلا لا تحبني, لو أنها تحبني لما تذكرت كل هذه الأخطاء؛ فالمحب لا يرى عيوب من يحبه.
عموما ليس بعد الكفر ذنب..ولا حاجة أن أدافع عن نفسي؛ فلا يهم بعد أن قالت أنها لا تحمل مشاعرا تجاهي..أن تسلخ الشاة التي ذبحتها.أودعها بعد أن استقلت تاكسي بإشارة من يدي مع شبح ابتسامة ماتت بعد أن ذهبت وحل محلها قبضة باردة تعتصر قلبي.
هل حقا أنني كنت أتوهم طوال خمس سنوات؟!!! وهل حقا أن ما مر لم يكن إلا حب من طرف واحد؟!!!
جائز..فعصر المعجزات انتهى... إلا معي!!!..أنا فقط من يعتقد -ربما في الكون كله- أن المعجزات ما زالت تحدث.مرت الأيام بطيئة كسلحفاة, ثقيلة كقدم فيل يجثم على صدري؛ إلا أن نعمة النسيان لا يدركها إلا من ذاقها.عفوا لم أنساها...لقد نسيت فقط ألم التجربة, أما هي فلا أظن أنني سأنساها؛ نقل فؤادك حيث شئت من الهوى......
واتتني الجرأة أخيرا أن أطلب من صديقتنا المشتركة رقم هاتفها...ارتبكت جدا وهي تسألني عن السبب, تعللت ب.........لا شىء, لا أجيد الكذب..قال لي معيد يوما: هناك محترفو كذب, أنت لست منهم. واضح أني أكشف نفسي بسرعة..والله حاولت تعلم الكذب ولكني لم أستطع.وصديقتي أدركت إحراجي فأعطتني الرقم مع ابتسامة مكر خفيفة. يا الله لماذا فشلت في تعلم الكذب؟!!!!
*********************
الهاتف يدق ويدق معه قلبي, لست أدري أيهما أعلى صوتا!!!!!
-ألو...صوت أجش يجيبني, ماذا؟ هل طلبت الرقم خطأ أم أعطتني صديقتي الرقم الخطأ؟ شبح الابتسامة التي ارتسمت على وجهها كان ينبىء بالشر...حيرة للحظات تمر كالدهر ولا أعرف كيف اتصرف.
-عفوا, يبدو أني اتصلت برقم على سبيل الخطأ (أجيب محدثي بعد أن قال ألو ثلاث مرات)
-ربما ليس خطأ..أنت بمن تتصل؟ (يجيبني هو)...نوع من الألفة يسري مع صوته فيشجعني
-أنا...أنا طالب رقم الدكتورة منى (أجيب)
-نعم أنت تطلب الرقم الصحيح, أنا والدها...ثواني أعطيها الهاتف..من نقول لها؟
-حازم....حازم عبدالغفار, مهندس زميلها منذ أيام الجامعة
-أه...أهلا وسهلا يا إبني
-أهلا بك يا عمي.
-ألو (هو صوتها الذي أعرفه جيدا ولكن أثر النوم بادي عليه)
-آسف لو أني اتصلت في وقت غير مناسب
-لا يهمك.
بداية مشجعة أن التليفون لن يغلق في وجهي.
-كيف حالك يا دكتور؟ (كما تعودت أن أناديها)
-بخير والحمد لله..كيف حالك أنت؟
-الحمد لله
لحظات صمت أقطعها بالاعتذار مرة أخرى عن سخافة اتصالي دون سابق استئذان..ما هذا الغباء؟! أليس الاتصال في حد ذاته استئذانا؟ ثم أين ذهبت الكلمات؟! في العادة يقول عني أصدقائي أنني يمكنني أن أتحدث لمدة ثلاث ساعات ودون توقف..بل يقولون عني أنني أولد الموضوعات ببساطة طقطقة الأصابع.
-أنا قلت أتصل لأطمئن عليك..فنحن أولا وأخيرا أصدقاء, أليس كذلك؟
أمنت هي على كلامي أن نعم وفقط.
-أنا أعتذر مرة ثالثة عن اتصالي والحمد لله أنك بخير..السلام عليكم
-وعليكم السلام
أغلق الهاتف ولكن قلبي لم يغلق معه. ما هذا الذي فعلته بنفسي..هل تريد يا حازم ان تنكأ جرحا قديما كان قد اندمل؟!!!!
لا يهم...يكفي أنني سمعت صوتها..أنا أحب العذاب -يبدو لي- ولا أرى لحياتي طعما بدونه.
تمر الأيام وتخبرني صديقتي أن خطوبتها قد تمت على دكتور زميل, زواج صالونات كما أعتقد.
أستقبل الخبر بلامبالاة في بادىء الأمر...ولكن ما إن أهجع إلى فراشي ليلا حتى يأتيني العذاب من حيث لا أحتسب.أيامي كعادتها لا جديد فيها..تمر بطيئة وكئيبة..ويأتي النسيان ليطمس التجربة ولما يطمس الحب.
أنا الآن في ميدان التحرير...يوم جمعة النصر, الكل من حولي سعيد وفرح..مع أصدقائي ننتظر خطبة الجمعة للقرضاوي.
أستأذن من أصدقائي أن أذهب لأتوضأ خارج الميدان في مقر حزب العربي الناصري والذي تعودنا أن نذهب إليه طوال أيام الثورة.
في عودتي للميدان من مدخل طلعت حرب..أسير -وكعادتي عندما أفكر- لا أرى من حولي..حتى ولو أن عيوني في عيونهم.
ولكن....وأه من كلمة ولكن تلك..كم من الجرائم تأتي بعد كلمة ولكن...وكم من الأقوال التي تقلب معسول الكلام لقبيحه أو العكس!!! ولكني أنتبه فجأة لعينين تنظران باتجاهي مع بعض الحيرة..عينان أعرفهما جيدا, إلا أن ثلاث سنوات مضت..جعلت من وجهي يتغير بعض الشىء إلى جانب حلاقتي لرأسي كاملا جعل الحيرة تبدو منطقية. عندما أنتبه لهاتين العينين تجفلان, سريعا تدير هي رأسها وجسدها كله في اتجاه شخص يقف بجانبها, حتى لتكاد تدخل في أحضانه..أو هي فعلا صارت في أحضانه. كما عهدتها دائما..ذكية, لم أكن لأحب فتاة غبية ما حييت. تسرع هي بالحديث معه كي لا تعطيه انطباعا أن التفاتتها لعلة في نفسها, وتدير ظهرها لي أن ابتعد ولا تحرجني, هذا هو.
أفهم الإشارة جيدا, أظنني -وبعض الظن من حسن الفطن- ذكي, يدرك مثل هذه الإشارات.
أواصل سيري إلى داخل الميدان..يبتسم صديقي أحمد مع سؤاله لي لماذا تأخرت؟ (كم أحبه)
أجيبه: لا شيء...فقط لمحت شخصا كنت أعتقد أنني أعرفه, واتضح أنني كنت واهما.
(تمت)